ازرع، ستحصد يوماً ما

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، مرّ شهر كاملٌ من الجفاف على مدينة هامبورغ، ولا قطرة مطر. استغللتُ هذا الوقت لإعادة تشكيل حديقة بيتي، بالعمل يوميّا لمدة ساعتين على الأقل، في الحفر والنشر والقص والردم والغرس… وبين يديّ صغيري بعمر عامين ونصف، يلهو بالتراب ويغوص فيه، ينقله وينثره ويبعثره، ويطير فرحا بدودة أرضٍ نجت من الجفاف فيلعب بها ويحملها ويضعها حتى تموت ذعرا، أو أنتبه أنا قبلا فأخفيها في تربة رطبة لتحفر وتنجو.
فعلت كل شيء وحدي، وبلا مخطط هندسي ولا خبرة سابقة ولا كتب. وبأعين الآخرين فليس ما فعلته عظيما، وربما لا يفهم الناظر لماذا أخذ العمل مني شهرا كاملا. لكني اليوم بعد مرور عام، وأنا أعيد ترتيب الحديقة، وأغرس بصيلات النرجس والزنبق في أحواض كانت ترابا فحسب، وأضيف أنوار الطاقة الشمسية، وأنظف الأرجوحة وأزيت مفاصلها، وأرى طفلي يصعد وينزل تلك الدرجات الترابية التي ابتكرتُها، ثم يجلس عليها ويصف ألعابه على درجة أخرى، أدرك أن جهدي لم يكن هباء.
لا نتفق أنا وزوجي في الذوق في أي شيء تقريبا، لكننا متفقان ألا ننكّد على بعضينا، فيتنازل أحدنا في أمر مقابل تنازل الآخر. وزوجي لا يحبّ الزراعة لكنه يحب الزرع، لا يحب الاعتناء بالشجر لكنه يحب وجوده والأكل منه، لا يحب التراب والماء والتلويص وكنس الورق وجز العشب، لكنه يحب المنظر المرتب. يحب الطبيعة، لكنه يرى نماذج الحدائق من حولنا فيعتقد أن النموذج الأفضل هو المرسوم بدقة، وأنا لا أطيق الدقة والمثالية والتنظيم في الطبيعة. لذلك تركني أفعل ما بدا لي، وكان يقدم المساعدة حين أطلبها، ولم أكن أحتاج لكثير من الجهد وتقريبا لا شيء من المال، سوى لشراء بعض البذور والغرسات. وصارت حديقتنا أشبه بغابة مهيئة للأطفال، كل ما فيها معدّ لهم، مع الحفاظ على مساحات وأحواض للشجر المثمر الذي يحبه هو.
والنتيجة تظهر كلما وضعت شيئا أخضر على المائدة من حديقة بيتنا، فيسرّ به سرورا عظيما وكأنه الذي زرعه وحصده شخصيا.
وحين جلست اليوم في الأرجوحة أراقب ابني الذي يحفر، نعم.. ما زال عندي حوضان ترابيان للحفر، لم أزرع فيهما شيئا بعد وربما لا أفعل مطلقا، أتركهما للصغير ليستحم بالتراب كما يشاء..
كنت أراقبه وأفكر في كل أولئك الذين أعدوا كل تفصيل في بيوتهم لسنوات، ثم راح كل شيء في لحظة. نحن ندرك أن الموت آت لا محالة ولن نأخذ معنا شيئا للقبر، لكن أن يؤخذ منك جهدك ظلما وعدوانا وحقدا وتدميرا!!
أعرف من فرشوا بيوتهم بالذهب-مع جهلهم بحرمة ذلك-، ثم توفاهم الله ولم يتمتعوا بما فرشوه إلا لحظات قليلة، لأنهم كانوا يخافون على الفرش أن يتلف أو يُسرق. لكن ماذا عمن بنوا البيت بأيديهم وغيروا تفاصيله مرة تلو مرة، وغرسوا نباتاته واعتنوا بها لسنوات؟

إننا بشر، ومن العسير حقا ألا نتعلق بالدار التي نسكنها، مهما كانت متواضعة في نظر الآخرين، ومن النادر أن تجد من يسكن بيتاً يكرهه دون علّة أو سبب. إن المرء يحبّ داره ويحبّ شعور السكينة الذي تمنحه الدار إياه.

نقول في العامية عند وقوع الضرر: في المال ولا في الأبدان. العوض عند الله.

صحيح، لكن هذا في حال الحوادث الطبيعية. إن المرء ليحزن وقد يصيبه من المرض النفسي ما يصيبه لو غرقت داره في فيضان ماء طبيعي. فكيف لو ذهب المال والبدن والروح كلها معا؟!

إن كان لنا أن نتعلم شيئا من هذه الأيام الثقيلة، فهي التخفف من متاع الدنيا طالما نحن بخير وعافية. كلما قلّ حملك في سفرك، كلما صارت حركة راحلتك أسرع، وطريقك أسهل.

اللهم أبدلهم خيراً مما فقدوا، وأفرغ عليهم صبراً وثبّت المؤمنين.